
الاقتصاد العربي بين التبعية والتحرر: هل آن الأوان لصناعة القرار المالي المستقل؟
في زمن تزداد فيه التقلبات الاقتصادية العالمية، من حروب وركود وارتفاع أسعار السلع والطاقة، بات من الواضح أن كثيرًا من الدول العربية لا تملك السيطرة الفعلية على قراراتها المالية.
فالاقتصاد ليس مجرد أرقام وموازنات، بل هو سلاح، وهوية، وأداة سيادة.
مظاهر التبعية: الدولار يحكم القرار
أول مظاهر التبعية المالية في العالم العربي هي الارتباط الكامل بالدولار الأمريكي، سواء في الاحتياطات النقدية أو في تسعير الواردات أو في خدمة الدين الخارجي.
الفيدرالي الأمريكي حين يرفع الفائدة، تشتعل الأسواق العربية بالغلاء، وحين يخفضها، تتقلب البورصات، ويزداد الضغط على العملات المحلية.
هذا الاعتماد يجعل من الصعب على الدول العربية أن تخطط اقتصاديًا وفقًا لأولوياتها المحلية، لأنها مجبرة على التفاعل مع سياسات لا تصب في مصلحتها.
كذلك، الاقتراض من مؤسسات دولية مثل صندوق النقد أو البنك الدولي يأتي دائمًا مشروطًا بإصلاحات قاسية:
- رفع الدعم عن الطاقة والغذاء
- تعويم العملة المحلية
- خصخصة قطاعات حيوية
- تخفيض أعداد الموظفين الحكوميين
وهذه الشروط قد تحقق توازنًا محاسبيًا مؤقتًا، لكنها تخلق معاناة اجتماعية طويلة المدى.
اقتصادات ريعية بلا إنتاج
العديد من الاقتصادات العربية لا تزال تعتمد على الموارد الطبيعية (مثل النفط والغاز) أو على التحويلات الخارجية أو السياحة، دون امتلاك قاعدة إنتاجية قوية.
وهذا يجعلها عرضة للهزات الخارجية، ويُضعف قدرتها على خلق فرص عمل أو بناء اكتفاء ذاتي.
فعلى سبيل المثال، صناعة الغذاء والدواء في أغلب الدول العربية تعتمد على استيراد المادة الخام أو المنتج النهائي، حتى في أكثر المنتجات بساطة.
في الوقت ذاته، تُهمّش الزراعة والصناعة، ويُنظر إليهما كقطاعات غير جذابة، رغم أنهما أساس أي اقتصاد قوي.
الفرصة البديلة: هل يمكن بناء اقتصاد عربي مستقل؟
الاستقلال المالي لا يعني القطيعة مع العالم، بل يعني امتلاك القرار الداخلي، وتوجيه الموارد وفقًا لأولوياتنا، لا أولويات الآخرين.
ويمكن تحقيق هذا من خلال عدة مسارات:
- إعادة توجيه الاستثمارات نحو الإنتاج: دعم المشاريع الصناعية والزراعية والتكنولوجية، بدلًا من التوسع في العقارات والاستهلاك.
- إصلاح المنظومة الضريبية: بحيث تساهم الطبقات العليا والقطاعات الثرية بنصيب عادل في بناء الاقتصاد، وتُحمى الطبقة المتوسطة والفقيرة.
- تعزيز التبادل التجاري العربي البيني: بدلاً من استيراد كل شيء من الخارج، يمكن تقوية التكامل العربي في الغذاء والطاقة والدواء.
- إطلاق عملات رقمية عربية أو أنظمة مقايضة تجارية لتقليل الاعتماد على الدولار واليورو في المبادلات.
دروس من العالم
يمكن الاستفادة من تجارب دول مثل:
- الصين التي فرضت نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الإنتاج والصادرات والعملة المحلية.
- تركيا التي رغم أزماتها، تحاول دعم الصناعات الوطنية وتوسيع صادراتها.
- البرازيل والهند اللتان تبنيان اقتصادات قائمة على السوق الداخلي والإنتاج المحلي والتكنولوجيا.
دور القطاع الخاص والمجتمع المدني
لا يمكن للدولة وحدها أن تصنع اقتصادًا مستقلًا. بل يجب أن يكون هناك تحالف ذكي بين الدولة والقطاع الخاص ورواد الأعمال، وأن تتاح الفرصة للشباب ليبادروا بمشاريعهم دون عراقيل بيروقراطية أو فساد.
كما أن الإعلام الاقتصادي المسؤول له دور مهم في رفع الوعي، ومكافحة المفاهيم السلبية مثل “الاستيراد هو دليل تطور”، أو “الصناعة المحلية لا تستحق الثقة”.
خاتمة: هل نحن جاهزون للتحرر المالي؟
الطريق نحو استقلال القرار الاقتصادي ليس سهلًا، لكنه ضروري.
فمن لا يملك قوته، لا يملك قراره. ومن لا ينتج، يبقى دائمًا تابعًا.
قد لا نملك كل الأدوات الآن، لكننا نملك الإرادة والرؤية، وهذا وحده كفيل بأن يشكل نقطة بداية.
السؤال الحقيقي ليس: هل يمكننا التحرر؟
بل: هل نستطيع تحمل كُلفة البقاء تابعين؟
بقلم : باسم عرفه